الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من لطائف وفوائد المفسرين: .من لطائف القشيري في الآية الكريمة: .قال في مجمع البيان: الأول: الجماعة كما في الآية. والثاني: القدوة والإمام في قوله: {إن إبراهيم كان أمة قانتا}. والثالث: القامة في قول الأعشى: والرابع: الاستقامة في الدين والدنيا. قال النابغة: أي: ذو ملة ودين. والخامس: الحين في قوله: {وادكر بعد أمة}. والسادس: أهل الملة الواحدة في قولهم أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى الله عليه وعليهما. وأصل الباب القصد من أمه يومه أما: إذا قصده. اهـ. .كلام نفيس في الآية الكريمة: والأبناء وإن كانوا يتشرفون بشرف آبائهم إلا إنه إذا نفخ في الصور فلا أنساب والافتخار بمثل هذا كالافتخار بمتاع غيره وإنه من الجنون فلابد من كسب العمل والإخلاص فيه فإنه المنجى بفضل الله تعالى وجاء في حديث طويل وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنى رأيت البارحة عجبا رأيت رجلا من أمتى جاءه ملك الموت ليقبض روحه فجاء بره لوالديه فرده عنه ورأيت رجلا من أمتى قد بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك ورأيت رجلا من أمتى قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم ورأيت رجلا من أمتى قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم ورأيت رجلا من أمتى يلهث عطشا كلما ورد حوضا منع منه فجاءه صيامه فسقاه وأرواه ورأيت رجلا من أمتى والنبيون قعود حلقا حلقا كلما دنا لحلقة طرد فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده وأقعده إلى جنبى ورأيت رجلا من أمتى بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن شماله ظلمة ومن فوقه ظلمة ومن تحته ظلمة فهو متحير فجاءته حجته وعمرته فاستخرجتاه من الظلمة وأدخلتاه في النور ورأيت رجلا من أمتى يكلم المؤمنين فلا يكلمونه فجاءته صلة الرحم فقالت يا معشر المؤمنين كلموه كلموه ورأيت رجلا من أمتى يتقى وهج النار وشررها بيده عن وجهه فجاءته صدقته فصارت سترا على وجهه وظلا على رأسه ورأيت رجلا من أمتى قد أخذته الزبانية من كل مكان فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذاه من أيديهم وأدخلاه مع ملائكة الرحمة ورأيت رجلا من أمتى جاثيا على ركبتيه بينه وبين الله حجار فجاءه حسن خلقه فاخذ بيده فأدخله على الله ورأيت رجلا من أمتى قد هوت صحيفته من قبل شماله فجاءه خوفه من الله فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه ورأيت رجلا من أمتى قد خف ميزانه فجاءته أفراطه فثقلوا ميزانه ورأيت رجلا من أمتى قائما على شفير جهنم فجاءه وجله من الله فاستنقذه من ذلك ومضى ورأيت رجلا من أمتى أهوى في النار فجاءته دموعه التي بكى بها من خشية الله فاستخرجته من النار ورأيت رجلا من أمتى قائما على الصراط يرعد كما ترعد السعفة فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعدته ومضى ورأيت رجلا من أمتى على الصراط يزحف أحيانا ويحبو أحيانا ويتعلق أحيانا فجاءته صلاته على فأخذت بيده وأقامته ومضى على الصراط ورأيت رجلا من أمتى انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة» قيل يا رسول الله وما إخلاصها قال: «أن تحجزه عن محارم الله» فعلم من هذا التفصيل أن الخلاص وإن كان بفضل الله تعالى لكنه منوط بالأعمال الصالحة فالقرابة لا تغنى شيئا إذا فسد العمل، وأما قول من قال: إذا طاب أصل المرء طابت فروعه فباعتبار الغالب فإن من عادته تعالى أن يخرج الحى من الميت والميت من الحى والعود الذي تفوح رائحته وإن كان في الأصل شجرة كسائر الأشجار إلا إنه لما كان له استعداد لتلك المرتبة وحصل ذلك بالتربية فاق على الأقران وخرج من جنس الأصل وكذا المسك فإن أصله دم وكم من نسيب يعود على أصله بالعكس فيظهر فيه أثر الصلاح الباطن في أبيه إن كان أى أبوه فاسقا أو الفساد الباطن فيه إن كان صالحا وكم من فرع يميل إلى أصله على وجه فانظر حال آدم عليه السلام وولديه هابيل وقابيل ومن بعدهم إلى قيام الساعة. اهـ. .فوائد جليلة دلت عليها الآية الكريمة: .المسألة الأولى: التقليد: .المسألة الثانية: الترغيب في الإيمان: .المسألة الثالثة: ثواب الأبناء بطاعة الآباء: .المسألة الرابعة: تعذيب الأبناء بكفر الآباء: .فوائد ولطائف: وتقديم المسندين على المسند إليهما في {لها ما كسبت ولكم ما كسبتم} لقصر المسند إليه على المسند أي ما كسبت الأمة لا يتجاوزها إلى غيرها وما كسبتم لا يتحاوزكم. ونفى السؤال عن العمل لأنه أقل أنواع المؤاخذة بالجريمة فإن المرء يؤخذ بجريمته فيسأل عنها ويعاقب وقد يسأل المرء عن جريمة غيره ولا يعاقب كما يلام على القوم فعل بعضهم ما لا يليق وهو شائع عند العرب قال زهير: فنفي أصل السؤال أبلغ وأشمل للأمرين، وإن جعلت قوله: {ولكم ما كسبتم} مرادًا به الأعمال الذميمة المحيطة بهم كان قوله: {ولا تسألون} إلخ احتراسًا واستيفاء لتحقيق معنى الاختصاص أي كل فريق مختص به عمله أو تبعته ولا يلحق الآخر من ذلك شيء ولا السؤال عنه، أي لا تحاسبون بأعمال سلفكم وإنما تحاسبون بأعمالكم. اهـ. حكى عن بعض العلماء أنه سئل عما وقع من الفتن بين علي ومعاوية وطلحة والزبير وعائشة- رضوان الله عليهم- فقرأ {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)} الآية وهذا جواب حسن في مثل هذا السؤال. اهـ. .من فوائد الجصاص في الآية: قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يَدُلُّ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَبْنَاءَ لَا يُثَابُونَ عَلَى طَاعَةِ الْآبَاءِ وَلَا يُعَذَّبُونَ عَلَى ذُنُوبِهِمْ. وَفِيهِ إبْطَالُ مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعْذِيبَ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ بِذُنُوبِ الْآبَاءِ، وَيُبْطِلُ مَذْهَبَ مَنْ يَزْعُمُ مِنْ الْيَهُودِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ بِصَلَاحِ آبَائِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ، نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا عَلَيْهَا} {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَقَالَ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لِأَبِي رِمْثَةَ وَرَآهُ مَعَ ابْنِهِ «أَهُوَ ابْنُك؟» فَقَالَ: نَعَمْ قَالَ: «أَمَا إنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْك وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ». وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَا بَنِي هَاشِمٍ لَا يَأْتِينِي النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ وَتَأْتُونَ بِأَنْسَابِكُمْ فَأَقُولُ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا» وَقَالَ: «مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ». اهـ. .من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَّصِلٌ بِمَا سَبَقَهُ مِنِ ابْتِدَاءِ قَوْلِهِ: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، وَأَنَّهُ جَعَلَهُ إِمَامًا لِلنَّاسِ وَجَعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً، وَأَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِ بِبِنَاءِ بَيْتِهِ وَتَطْهِيرِهِ لِعِبَادَتِهِ فَفَعَلَ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ يَدْعُو بِمَا عُلِمَ مِنْهُ مَا هِيَ مِلَّتُهُ، وَإِنْ هِيَ إِلَّا تَوْحِيدُ اللهِ وَإِسْلَامُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، وَالْإِخْلَاصُ لَهُ بِالْأَعْمَالِ، وَتَعْظِيمُ الْبَيْتِ بِتَطْهِيرِهِ، وَإِقَامَةُ الْمَنَاسِكِ فِيهِ عَنْ بَصِيرَةٍ بِأَسْرَارِهَا تَجْعَلُ الْمَعْنَى الْمُتَصَوَّرَ كَالْمَحْسُوسِ الْمُبْصَرِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} أَيِ امْتَهَنَهَا وَاسْتَخَفَّ بِهَا؛ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هَذِهِ هِيَ مِلَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي تَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ وَتَفْخَرُونَ بِهِ، فَكَيْفَ تَرْغَبُونَ عَنْهَا، وَتَنْتَحِلُونَ لِأَنْفُسِكُمْ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا لَا بِالذَّاتِ وَلَا بِالْوَسَاطَةِ!. قَالَ: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} بِهَذِهِ الْمِلَّةِ فَجَعَلْنَاهُ إِمَامًا لِلنَّاسِ، وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ الْكِتَابَ وَالنُّبُوَّةَ {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} لِجِوَارِ اللهِ بِعَمَلِهِ بِهَذِهِ الْمِلَّةِ وَدَعْوَتِهِ إِلَيْهَا، وَإِرْشَادِهِ النَّاسَ بِهَا. فَمِلَّةٌ جَعَلَتْ لِإِبْرَاهِيمَ هَذِهِ الْمَكَانَةَ عِنْدَ اللهِ- تَعَالَى- فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لَا يَرْغَبُ عَنْهَا إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ، وَجَنَى عَلَى إِدْرَاكِ عَقْلِهِ فَاسْتَحَبَّ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، وَإِنْ خَسِرَ الْآخِرَةَ وَالْأُولَى. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: قَوْلُ الْجَلَالِ فِي تَفْسِيرِ {سَفِهَ نَفْسَهُ} أَيْ جَهِلَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِهِمْ وَالسِّيَاقُ لَا يَقْتَضِيهِ، وَسَفِهَ: يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، وَمَعْنَى الْمُتَعَدِّي: اسْتَخَفَّ وَامْتَهَنَ وَأَخَّرَهُ الْجَلَالُ وَهُوَ الرَّاجِحُ. وَفِي الْكَشَّافِ أَنَّ {نَفْسَهُ} تَمْيِيزٌ لِفَاعِلِ {سَفِهَ} وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ الْإِضَافَةُ إِلَى الضَّمِيرِ؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيفٌ لَفْظِيٌّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَرْغَبُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ سَفِهَتْ نَفْسُهُ، أَيْ حَمُقَتْ. وَقَدَّمَ هَذَا الْقَوْلَ كَأَنَّهُ رَجَّحَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَأَقُولُ: سَفُهَ بِالضَّمِّ- كَضَخُمَ- سَفَاهَةً صَارَ سَفِيهًا، وَسَفِهَ بِالْكَسْرِ- كَتَعِبَ- سَفَهًا هُوَ الَّذِي قِيلَ: إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ لَازِمٌ دَائِمًا وَأَنَّ أَصْلَ سَفِهَ نَفْسَهُ بِالرَّفْعِ، فَنُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ كَسَفِهَ نَفْسًا، فَأُضِيفَتِ النَّفْسُ إِلَى ضَمِيرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِثْلُهُ غَبِنَ رَأْيَهُ. وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُ مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} [2: 142]. {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} أَيِ اصْطَفَاهُ إِذْ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِمَا أَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ وَنَصَبَ لَهُ مِنْ بَيِّنَاتِهِ، فَأَجَابَ الدَّعْوَةَ و{قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} والْجَلَالُ قَدَّرَ كَلِمَةَ اذْكُرْ مُتَعَلِّقًا لِلظَّرْفِ إذ كَمَا هِيَ عَادَتُهُ فِي مِثْلِهِ وَإِنْ وُجِدَ فِي الْكَلَامِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: {اصْطَفَيْنَاهُ} وَقَدْ نَشَأَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَتَّخِذُونَ الْأَصْنَامَ، فَأَرَاهُ اللهُ حُجَّتَهُ، وَأَنَارَ بَصِيرَتَهُ، فَنَفَذَتْ أَشِعَّتُهَا مِنَ الْعَالِمِ الشَّمْسِيِّ، وَأَدْرَكَتْ أَنَّ لِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ رَبًّا وَاحِدًا مُنْفَرِدًا بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ فَبَهَرَهُمْ بِبُرْهَانِهِ، وَأَفْحَمَهُمْ بِبَيَانِهِ، وَقَدْ قَصَّ اللهُ تَعَالَى خَبَرَهُ مَعَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ الْآيَاتِ إِنْ شَاءَ اللهُ- تَعَالَى. {وَوَصَّى بِهَا} أَيْ بِالْمِلَّةِ أَوِ الْخَصْلَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ أَخِيرًا، {إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} بَنِيهِ أَيْضًا، إِذْ قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِوَلَدِهِ: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} أَيِ اخْتَارَهُ لَكُمْ بِهِدَايَتِكُمْ إِلَيْهِ وَجَعَلَ الْوَحْيَ فِيكُمْ {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أَيْ فَحَافِظُوا عَلَى الْإِسْلَامِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصِ فِي الِانْقِيَادِ إِلَيْهِ بِحَيْثُ لَا تَتْرُكُوا ذَلِكَ لَحْظَةً وَاحِدَةً لِئَلَّا تَمُوتُوا فِيهَا فَتَمُوتُوا غَيْرَ مُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَضْمَنُ حَيَاتَهُ بَيْنَ الشَّهِيقِ وَالزَّفِيرِ، وَيَتَضَمَّنُ هَذَا النَّهْيُ إِرْشَادَ مَنْ كَانَ مُنْحَرِفًا عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى عَدَمِ الْيَأْسِ وَأَنْ يُبَادِرَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ لِئَلَّا يَمُوتَ عَلَى غَيْرِهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ انْتِقَالٌ إِلَى إِشْرَاكِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَالَمِينَ مِنَ الْعَرَبِ فِي التَّذْكِيرِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الْإِسْلَامِ؛ وَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ وَصِيَّةُ يَعْقُوبَ، وَاخْتَلَفَ الْأُسْلُوبُ فَقَدْ كَانَ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ، فَانْتَقَلَ إِلَى طَرِيقَةِ الْإِطْنَابِ وَالْإِلْحَاحِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ الْإِلْمَاعُ إِلَيْهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْأُولَى فِي خِطَابِ الْعَرَبِ، وَالثَّانِيَةِ فِي خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يَكْتَفُونَ بِالْإِشَارَةِ وَالْعِبَارَةِ الْمُخْتَصَرَةِ لِجُمُودِ أَذْهَانِهِمْ وَاعْتِيَادِهِمْ عَلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْعَاطِفِ وَالْمَعْطُوفِ بِالْمَفْعُولِ وَلَمْ يَقُلْ: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَيَعْقُوبُ بَنِيهِمَا، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ مِنْهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِأَبْنَائِهِمَا مَعًا، وَهُمْ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}. ذَكَرَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَحُكْمَ الرَّاغِبِ عَنْهَا وَوَصِيَّتَهُ بَنِيهِ بِهَا، وَوَصِيَّةَ حَفِيدِهِ يَعْقُوبَ بَنِيهِ بِهَا أَيْضًا، وَذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّ بَنِي إِبْرَاهِيمَ كَانُوا يُوصَوْنَ بِمَا أَوْصَاهُمْ أَبُوهُمْ، فَإِنَّ يَعْقُوبَ أَخَذَ الْوَصِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ إِسْحَاقَ، وَذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الْإِيجَازِ الدَّقِيقَةِ. ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُقَرِّرَ أَمْرَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَيُؤَكِّدَهَا وَيُقِيمَ الْحُجَّةَ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}. أَقُولُ: هَذَا إِضْرَابٌ عَمَّا قَبْلَهُ وَانْتِقَالٌ إِلَى اسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ وُجِّهَ إِلَى الْيَهُودِ عَنْ وَصِيَّةِ جَدِّهِمْ يَعْقُوبَ لِآبَائِهِمُ الْأَسْبَاطِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: مَعْنَاهُ أَكُنْتُمْ غَائِبِينَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذِ احْتَضَرَ يَعْقُوبُ فَسَأَلَ بَنِيهِ عَمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِهِ سُؤَالَ تَقْرِيرٍ لِيُشْهِدُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَالسُّؤَالُ بِ مَا أَعَمُّ مِنَ السُّؤَالِ بمَنْ لِأَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِمَنْ يَعْقِلُ وَمَا أُنْزِلَ مَنْزِلَتَهُ بِسَبَبٍ يُجِيزُ ذَلِكَ، وَالسُّؤَالُ بِكَلِمَةِ مَا يَعُمُّ الْعَاقِلَ وَغَيْرَهُ، وَتَتَعَيَّنُ مَا فِي السُّؤَالِ عَنِ الْعَاقِلِ إِذَا أُرِيدَ وَصْفُهُ نَحْوَ {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [26: 23]؟ وَهَذَا الِاصْطِلَاحُ لِلنُّحَاةِ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ وَصْفِ اللهِ تَعَالَى بِلَفْظِ الْعَاقِلِ شَرْعًا؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتَهُ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ، {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} عَرَّفُوا الْإِلَهَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى آبَائِهِمْ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ انْفَرَدُوا بِعِبَادَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحْدَهُ، وَدَعَوُا الْأُمَمَ إِلَى ذَلِكَ فِي وَقْتٍ فَشَتْ فِيهِ عِبَادَةُ آلِهَةٍ كَثِيرِينَ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ سَحَرَةُ مُوسَى عِنْدَمَا آمَنُوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [7: 121- 122]. وَإِسْمَاعِيلُ عَمُّ يَعْقُوبَ، ذُكِرَ مَعَ آبَائِهِ لِلتَّغْلِيبِ أَوْ لِتَشْبِيهِ الْعَمِّ بِالْأَبِ، كَمَا فِي حديث: «عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ جَائِزٌ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ وِفَاقًا لِلشَّافِعِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَخِلَافًا لِجُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ إِلَهًا وَاحِدًا أَيْ نَعْبُدُهُ حَالَ كَوْنِهِ إِلَهًا وَاحِدًا لَا نُشْرِكُ مَعَهُ أَحَدًا بِدُعَاءٍ، وَلَا تَوَجُّهٍ فِي قَضَاءِ حَاجَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أَيْ وَالْحَالُ أَنَّنَا نَحْنُ مُنْقَادُونَ مُذْعِنُونَ مُسْتَسْلِمُونَ لَهُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الظَّرْفِ لَهُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْآيَةِ مَا مَعْنَاهُ: خُلَاصَةُ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ عَقِيدَةُ الْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ وَإِسْلَامِ الْقَلْبِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْإِخْلَاصِ لَهُ. وَتَكْرَارُ لَفْظِ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ يُرَادُ بِهِ تَقْرِيرُ حَقِيقَةِ الدِّينِ. ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَدَّعِي أَنَّ لَهَا دِينًا خَاصًّا بِهَا وَأَنَّهُ الْحَقُّ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْقَبَائِلُ وَالشُّعُوبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَنْتَمِي إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَى وَثَنِيَّتِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى كُلٌّ يَدَّعِي دِينًا خَاصًّا بِهِ وَأَنَّهُ الْحَقُّ، فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنَّ هَذِهِ الدَّعَاوَى مِنَ التَّعَصُّبِ لِلتَّقَالِيدِ وَأَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى وَاحِدٌ فِي حَقِيقَتِهِ، وَرُوحَهُ التَّوْحِيدُ وَالِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْخُضُوعُ وَالْإِذْعَانُ لِهِدَايَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَبِهَذَا كَانَ يُوصِي أُولَئِكَ النَّبِيُّونَ أَبْنَاءَهُمْ وَأُمَمَهُمْ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى وَاحِدٌ فِي كُلِّ أُمَّةٍ وَعَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [42: 13] فَالتَّفَرُّقُ فِي الدِّينِ مَا جَاءَ إِلَّا مِنَ الْجَهْلِ وَالتَّعَصُّبِ لِلْأَهْوَاءِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْحُظُوظِ وَالْمَنَافِعِ الْمُتَبَادَلَةِ بَيْنَ الْمَرْءُوسِينَ وَالرُّؤَسَاءِ، فَالْقُرْآنُ يُطَالِبُ الْجَمِيعَ بِالِاتِّفَاقِ فِي الدِّينِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى أَصْلَيْهِ، الْعَقْلِيِّ: وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ بِأَنْوَاعِهِ، وَالْقَلْبِيِّ: وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ. وَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ لَفْظَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ فِي كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَيَعْقُوبَ يُرَادُ بِهِ مَعْنَاهُ الَّذِي تَقَدَّمَ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَقِّقًا بِهَذَا الْمَعْنَى فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ، أَيْ لَيْسَ عَلَى دِينِ اللهِ الْقَيِّمِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَنْبِيَاءِ اللهِ. وَأَمَّا لَفْظُ الْإِسْلَامِ فِي عُرْفِنَا الْيَوْمَ، فَهُوَ لَقَبٌ يُطْلَقُ عَلَى طَوَائِفَ مِنَ النَّاسِ لَهُمْ مُمَيِّزَاتٌ دِينِيَّةٌ وَعَادِيَّةٌ تُمَيِّزُهُمْ عَنْ سَائِرِ طَوَائِفِ النَّاسِ الَّذِينَ يُلَقَّبُونَ بِأَلْقَابٍ دِينِيَّةٍ أُخْرَى، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي إِطْلَاقِ هَذَا اللَّقَبِ الْعُرْفِيِّ عِنْدَ أَهْلِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ خَاضِعًا مُسْلِمًا لِدِينِ اللهِ مُخْلِصًا لَهُ أَعْمَالَهُ، بَلْ يُطْلِقُونَهُ أَيْضًا عَلَى مَنِ ابْتَدَعَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، أَوْ مَا يُنَافِيهِ، وَمَنْ فَسَقَ عَنْهُ وَاتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ. وَمَعْنَى الْإِسْلَامِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ الْقُرْآنُ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَيَعْتَرِفُ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؛ لِأَنَّهُ رُوحُ كُلِّ دِينٍ، وَهُوَ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّقَبِ لَا مَعْنَى لَهَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ تَقْرِيرِهِ هَذَا الْمَعْنَى: وَبِهِ يَظْهَرُ خَطَأُ مَنْ خَصَّصَ الرَّغْبَةَ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ بِالْمَيْلِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ {أَمْ} تُسْتَعْمَلُ فِي الِاسْتِفْهَامِ إِذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى كَلَامٍ سَابِقٍ كَمَا هُنَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِشْعَارِ بِالِانْتِقَالِ، فَفِيهَا مَعْنَى الْإِضْرَابِ. {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، أَقُولُ: الْأُمَّةُ هُنَا الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ يَعْقُوبُ وَآبَاؤُهُ وَأَبْنَاؤُهُ، وَإِذَا بَدَأْتَ بِالْأَفْضَلِ قُلْتَ: إِبْرَاهِيمُ وَأَوْلَادُهُ وَأَحْفَادُهُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ. {قَدْ خَلَتْ} مَضَتْ وَذَهَبَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ {لَهَا مَا كَسَبَتْ} مِنْ عَمَلٍ تُجْزَى بِهِ {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} مِنْ عَمَلٍ تُجْزَوْنَ بِهِ، وَلَا يُجْزَى أَحَدٌ بِعَمَلِ غَيْرِهِ {وَلَا تُسْئَلُونَ} يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} سُؤَالَ حِسَابٍ وَجَزَاءٍ، وَلَا يُسْئَلُونَ عَمَّا تَعْمَلُونَ كَذَلِكَ، بَلْ كُلٌّ يُسْأَلُ عَنْ عَمَلِهِ وَيُجَازَى بِهِ دُونَ عَمَلِ غَيْرِهِ، فَلَا يَنْتَفِعُ أَحَدٌ بِعَمَلِ غَيْرِهِ وَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَمَلُهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَنْتَفِعُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِعَمَلِ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ هُوَ سَبَبًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ وَكَانَ قُدْوَةً لَهُ فِيهِ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بَعْدَ الْكَلَامِ عَنْ وَصِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِبَنِيهِ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ لِبَنِيهِمُ؛ اسْتِدْرَاكًا عَلَى مَا عَسَاهُ يَقَعُ فِي أَذْهَانِ ذَرَارِي هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْكِرَامِ- عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنْ أَنَّ هَذَا السَّلَفَ الَّذِي لَهُ عِنْدَ اللهِ هَذِهِ الْمَكَانَةُ يَشْفَعُ لَهُمْ فَيَنْجُونَ وَيَسْعَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمُجَرَّدِ الِانْتِسَابِ إِلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ سُنَّتَهُ فِي عِبَادِهِ أَلَّا يُجْزَى أَحَدٌ إِلَّا بِكَسْبِهِ وَعَمَلِهِ، وَلَا يُسْأَلَ إِلَّا عَنْ كَسْبِهِ وَعَمَلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الْعَامَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلُ {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [53: 36- 39]... إِلَخْ. وَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي سُوَرٍ مُتَفَرِّقَةٍ: أَنَّ الْمُرْسَلِينَ لَمْ يُرْسَلُوا إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، فَمَنْ آمَنَ بِهِمْ وَعَمِلَ بِمَا يُرْشِدُونَ إِلَيْهِ كَانَ نَاجِيًا وَإِنْ بَعُدَ عَنْهُمْ فِي النَّسَبِ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَدْيِهِمْ كَانَ هَالِكًا وَإِنْ أَدْلَى إِلَيْهِمْ بِأَقْرَبِ سَبَبٍ {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [11: 46] وَإِذَا لَمْ تَنْتَفِعْ بِهِمْ ذُرِّيَّاتُهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَقْتَدُوا بِهِمْ فَكَيْفَ يَنْتَفِعُ بِهِمْ أُولَئِكَ الْبُعَدَاءُ الَّذِينَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ صِلَةٌ إِلَّا الْأَقْوَالَ الْكَاذِبَةَ الَّتِي يُعَبِّرُ عَنْهَا أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ بِالْمَحْسُوبِيَّةِ، وَيَقُولُونَ فِي مُخَاطَبَةِ أَصْحَابِ الْقُبُورِ عِنْدَ الِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ: الْمَحْسُوبُ كَالْمَنْسُوبِ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ: إِذَا كَانَ الْجَائِعُ يَشْبَعُ إِذَا أَكَلَ وَالِدُهُ دُونَهُ، وَالظَّمْآنُ يَرْوَى بِشُرْبِ وَالِدِهِ. اهـ.
|